فصل: سنة ثلاث عشرة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.سنة ثلاث عشرة:

.ذكر فتوح الشام:

قيل: في سنة ثلاث عشرة وجه أبو بكر الجنود إلى الشام بعد عوده من الحج، فبعث خالد بن سعيد بن العاص، وقيل: إنما سيره لما سير خالد بن الوليد إلى العراق، وكان أول لواء عقده إلى الشام لواء خالد، ثم عزله قبل أن يسير.
وكان سبب عزله أنه تربص ببيعة أبي بكر شهرين ولقي علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان فقال: يا أبا الحسن، يا بني عبد مناف، أغلبتم عليها؟ فقال علي: أمغالبةً ترى أم خلافة.
فأما أبو بكر فلم يحدقها عليه وأما عمر فاضطغنها عليه، فلما ولاه أبو بكر لم يزل به عمر به حتى عزله من الإمارة وجعله ردءاً للمسلمين بتيماء وأمره أن لا يفارقها إلا بأمره وأن يدعو من حوله من العرب غلا من ارتد وأن لا يقاتل إلا من قاتله. فاجتمع إليه جموع كثيرة، وبلغ خبره الروم فضربوا البعث على العرب الضاحية بالشام من بهراء وسليح وغسان وكلب ولخم وجذام، فكتب خالد بن سعيد إلى بكر بذلك، فكتب إليه أبو بكر: أقدم ولا تقتحمن. فسار إليهم، فلما دنا منهم تفرقوا، فنزل منزلهم وكتب إلى أبي بكر بذلك، فأمره بالإقدام بحيث لا يؤتى من خلفه. فسار حتى جازه قليلاً ونزل، فسار إليه بطريق من بطارقة الروم يدعى باهان، فقاتله فهزمه وقتل من جنده، فكتب خالد إلى أبي بكر يستمده، وكان قد قدم على أبي بكر أوائل مستنفري اليمن وفيهم ذو الكلاع، وقدم عكرمة بن أبي جهل فيمن معه من تهام وعمان والبحرين والسرو، فكتب لهم أبو بكر إلى أمراء الصدقات أن يبدلوا من استبدل، فكلهم استبدل، فسمي جيش البدال، وقدموا على خالد بن سعيد.
وعندها اهتم أبو كبر بالشام وعناه أمره، وكان أبو بكر قد رد عمرو ابن العاص إلى عمله الذي كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولاه إياه من صدقات سعد هذيم وعذرة وغيرهم قبل ذهابه إلى عمان ووعده أن يعيده إلى عمله بعد عوده من عمان، فأنجز له أبو بكر عدة رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
فلما عزم على قصد الشام كتب له: إني كنت قد رددتك على العمل الذي ولاك رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مرة ووعدك به أخرى إنجازاً لمواعيد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقد وليته، وقد أحببت أن أفرغك لما هو خير لك في الدنيا والآخرة، إلا أن يكون الذي أنت فيه أحب إليك.
فكتب إليه عمرو: إني سهم من سهام الإسلام، وأنت بعد الله الرامي بها والجامع لها، فانظر أشدها وأخشاها وأفضلها فارم به. فأمره وأمر الوليد ابن عقبة، وكان على بعض صدقات قضاعة، أن يجمعا العرب، ففعلا، وأرسل أبو بكر إلى عمرو بعض من اجتمع إليه وأمره بطريق سماها له إلى فلسطين، وأمر الوليد بالأردن وأمده ببعضهم، وأمر يزيد بن أبي سفيان على جيش عظيم هو جمهور من انتدب إليه، فيهم سهيل بن عمرو في أمثاله من أهل مكة، وشيعه ماشياً، وأوصاه وغيره من الأمراء، فكان مما قال ليزيد: إني قد وليتك لأبلوك وأجربك وأخرجك، فإن أحسنت رددتك إلى عملك وزدتك، وإن أسأت عزلتك، فعليك بتقوى الله فإنه يرى من باطنك مثل الذي من ظاهرك، وإن أولى الناس بالله أشدهم تولياً له، وأقرب الناس من الله أشدهم تقرباً إليه بعمله، وقد وليتك عمل خالد فإياك وعبية الجاهلية، فإن الله يبغضها ويبغض أهلها، وإذا قدمت على جندك فأحسن صحبتهم وابدأهم بالخير وعدهم إياه، وإذا وعظتهم فأوجز فإن كثير الكلام ينسي بعضه بعضاً، وأصلح نفسك يصلح لك الناس، وصل الصوات لأوقاتها بإتمام ركوعها وسجودها والتخشع فيها، وإذا قدم عليك رسل عدوك فأكرمهم وأقلل لبثهم حتى يخرجوا من عسكرك وهم جاهلون به ولا ترينهم فيروا خللك ويعلموا علمك، وأنزلهم في ثروة عسكرك، وامنع من قبلك من محادثتهم، وكن أنت المتولي لكلامهم، ولا تجعل سرك لعلانيتك فيخلط أمرك، وإذا استشرت فاصدق الحديث تصدق المشورة، ولا تخزن عن المشير خبرك فتؤتى من قبل نفسك، واسمر بالليل في أصحابك تأتك الأخبار وتنكشف عندك الأستار، وأكثر حرسك وبددهم في عسكرك، وأكثر مفاجأتهم في محارسهم بغير علم منهم بك، فمن وجدته غفل عن محرسه فأحسن أدبه وعاقبه في غير إفراط، وأعقب بينهم بالليل، واجعل النوبة الأولى أطول من الأخيرة فإنها أيسرهما لقربها من النهار، ولا تخف من عقوبة المستحق، ولا تلجن فيها، ولا تسرع إليها، ولا تخذلها مدفعاً، ولا تغفل عن أهل عسكرك فتفسده، ولا تجسس عليهم فتفضحهم، ولا تكشف الناس عن أسرارهم، واكتف بعلانيتهم، ولا تجالس العباثين، وجالس أهل الصدق والوفاء، واصدق اللقاء، ولا تجبن فيجبن الناس، واجتنب الغلول فإنه يقرب الفقر ويدفع النصر، وستجدون أقواماً حبسوا أنفسهم في الصوامع فدعهم وما حبسوا أنفسهم له.
وهذه من أحسن الوصايا وأكثرها نفعاً لولاة الأمر. ثم إن أبا بكر استعمل أبا عبيدة بن الجراح على من اجتمع وأمره بحمص، وسار أبو عبيدة على باب من البلقاء فقاتله أهله ثم صالحوه، فكان أول صلح في الشام.
واجتمع للروم جمع بالعربة من أرض فلسطين، فوجه إليهم يزيد بن أبي سفيان أبا أمامة الباهلي فهزمهم، فكان أول قتال بالشام بعد سرية أسامة بن زيد. ثم أتوا الدائن فهزمهم أبو أمامة أيضاً، ثم مرج الصفر استشهد فيها ابن الخالد بن سعيد، وقيل: استشهد فيها خالد أيضاً، وقيل: بل سلم وانهزم على ما نذكره، وذلك أنه لما سمع توجيه الأمراء بالجنود بادر لقتال الروم فاستطرد له باهان فاتبعه خالد ومعه ذو الكلاع وعكرمة والوليد فنزل مرج الصفر، فاجتمعت عليه مسالح باهان وأخذوا الطرق، وخرج باهان فرأى ابن خالد بن سعيد فقتله ومن معه، فسمع خالد فانهزم، فوصل في هزيمته إلى ذي المروة قريب المدينة، فأمره أبو بكر بالمقام بها، وبقي عكرمة في الناس ردءاً للمسلمين يمنع من يطلبهم.
وكان قد قدم شرحبيل بن حسنة من عند خالد بن الوليد إلى أبي بكر وافداً، فأمره أبو بكر بالشام وندب معه الناس واستعمله على عمل الوليد ابن عقبة. فأتى شرحبيل على خالد بن سعيد ففصل عنه ببعض أصحابه، واجتمع إلى أبي بكر ناس فأرسلهم مع معاوية بن أبي سفيان وأمره باللحاق بأخيه يزيد، فلما مر بخالد فصل عنه بباقي أصحابه. فأذن أبو بكر لخالد بدخول المدينة. فلما وصل الأمراء إلى الشام نزل أبو عبيدة الجابية، ونزل يزيد البلقاء، ونزل شرحبيل الأردن، وقيل بصرى، ونزل عمرو بن العاص العربة. فبلغ الروم ذلك فكتبوا إلى هرقل، وكان بالقدس، فقال: أرى أن تصالحوا المسلمين، فوالله لأن تصالحوهم على نصف ما يحصل من الشام ويبقى لكم نصفه مع بلاد الروم أحب إليكم من أن يغلبوكم على الشام ونصف بلاد الروم. فتفرقوا عنه وعصوه، فجمعهم وسار بهم إلى حمص، فنزلها وأعد الجنود والعساكر، وأرا إشغال كل طائفة من المسلمين بطائفة من عسكره لكثرة جنده لتضعف كل فرقة من المسلمين عمن بإزائه، فأرسل تذارق أخاه لأبيه وأمه في تسعين ألفاً إلى عمرو، وأرسل جرجة بن توذر إلى يزيد بن أبي سفيان، وبعث القيقار بن نسطوس في ستين ألفاً إلى أبي عبيدة ابن الجراح، وبعث الدراقص نحو شرحبيل، فهابهم المسلمون وكاتبوا عمراً ما الرأي، فأجابهم: إن الرأي لمثلنا الاجتماع، فإن مثلنا إذا اجتمعنا لا نغلب من قلة، فإن تفرقنا لا يقوم كل فرقة له بمن استقبلها لكثرة عدونا.
وكتبوا إلى أبي بكر فأجابهم مثل جواب عمرو وقال: إن مثلكم لا يؤتى من قلة وإنما يؤتى العشرة آلاف من الذنوب، فاحترسوا منها، فاجتمعوا باليرموك متساندين وليصل كل واحد منكم بأصحابه. فاجتمع المسلمون باليرموك والروم أيضاً وعليهم التذارق وعلى المقدمة جرجة وعلى المجنبة باهان، ولم يكن وصل بعد إليهم، والدراقص على الأخرى وعلى الحرب القيقار، فنزل الروم وصار الوادي خندقاً لهم، وإنما أرادوا أن يتأنس الروم بالمسلمين لترجع إليهم قلوبهم، ونزل المسلمون على طريقهم ليس للروم طريقٍ إلا عليهم، فقال عمرو: أبشروا! حصرت الروم وقل ما جاء محصورٌ بخير. وأقاموا صفراً عليهم وشهري ربيع لا يقدرون منهم على شيء من الوادي والخندق ولا يخرج الروم خرجة إلا أديل عليهم المسلمون.

.ذكر مسير خالد بن الوليد من العراق إلى الشام:

لما رأى المسلمون مطاولة الروم استمدوا أبا بكر، فكتب إلى خالد بن الوليد يأمره بالمسير إليهم وبالحث وأن يأخذ نصف الناس ويستخلف على النصف الآخر المثنى بن حارثة الشيباني، ولا يأخذن من فيه نجدة إلا ويترك عند المثنى مثله، وإذا فتح الله عليهم رجع خالد وأصحابه إلى العراق.
فاستأثر خالد بأصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، على المثنى وترك للمثنى عدادهم من أهل القناعة من ليس له صحبة، ثم قسم الجند نصفين، فقال المثنى: والله لا أقيم إلا على إنفاذ أمر أبي بكر، وبالله ما أرجو النصر إلا بأصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم. فلما رأى خالد ذلك أرضاه ومضى لوجهه وشيعه المثنى إلى قراقر ثم رجع إلى الحيرة في المحرم. وقيل: سار من العراق في ثمانمائة، وقيل: في ستمائة، وقيل: في خمسمائة، وقيل: في تسعة آلاف، وقيل: في ستة آلاف، وقيل: إنما أمره أبو بكر أن يأخذ أهل القوة والنجدة، فأتى حدوداء فقاتله أهلها فظفر بهم، وأتى المصيخ وبه جمع من تغلب فقاتلهم وظفر بهم وسبى وغنم.
وكان من السبي الصهباء بنت حبيب بن بجير، وهي أم عمر بن علي ابن أبي طالب، وقيل في أمرها ما تقدم.
وقيل: سار خالد فلما وصل إلى قراقر، وهو ماء لكلب، أغار على أهلها وأراد أن يسير منهم فوزاً إلى سوى، وهو ماء لبهراء بينهما خمس ليال، فالتمس دليلاً، فدل على رافع بن عميرة الطائي، فقال له في ذلك، فقال له رافع: إنك لن تطيق ذلك بالخيل والأثقال، فوالله إن الراكب المفرد يخافه على نفسه. فقال: إنه لابد لي من ذلك لأخرج من وراء جموع الروم لئلا يحبسني عن غياث المسلمين. فأمر صاحب كل جماعة أن يأخذ الماء للشعبة لخمس وأن يعطش من الإبل الشرف ما يكتفي به ثم يسقوها عللاً بعد نهل، والعلل الشربة الثانية، والنهل الأولى، ثم يصروا آذان الإبل ويشدوا مشافرها لئلا تجتر. ثم ركبوا من قراقر، فلما ساروا يوماً وليلة شقوا لعدة من الخيل بطون عشرة من الإبل فمزجوا ماء في كروشها بما كان من الألبان وسقوا الخيل، ففعلوا ذلك أربعة أيام. فلما دنا من العلمين قال للناس: انظروا هل ترون شجرة عوسج كقعدة الرجل؟ فقالوا: ما نراها. فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، هلكتم والله وهلكت معكم! وكان أرمد. فقال لهم: انظروا ويحكم! فنظروا فرأوها قد قطعت وبقي منها بقية. فلما رأوها كبروا، فقال رافع: احفروا في أصلها. فحفروا واستخرجوا عيناً فشربوا حتى روي الناس. فقال رافع: والله ما وردت هذا الماء قط إلا مرة واحدة مع أبي وأنا غلام. فقال شاعر من المسلمين:
لله عينا رافعٍ أنى اهتدى ** فوز من قراقرٍ إلى سوى

خمساً إذا ما ساره الجيش بكى ** ما سارها قبلك إنسيٌّ يرى

فلما انتهى خالد إلى سوى أغار على أهلها وهم بهراء وهم يشربون الخمر في جفنة قد اجتمعوا عليها ومغنيهم يقول:
ألا عللاني قبل جيش أبي بكر ** لعل منايانا قريبٌ ولا ندري

ألا عللاني بالزجاج وكرروا ** علي كميت اللون صافيةً تجري

ألا عللاني من سلافة قهوةٍ ** تسلي هموم النفس من جيد الخمر

أظن خيول المسلمين وخالداً ** ستطرقكم قبل الصباح مع النسر

فهل لكم في السير قبل قتالكم ** وقبل خروج المعصرات من الخدر

فقتل المسلمون مغنيهم وسال دمه في تلك الجفنة وأخذوا أموالهم وقتل حرقوص بن النعمان البهراني. ثم أتى أرك فصالحوه، ثم أتى تدمر فتحصن أهله ثم صالحوه، ثم أتى القريتين فقاتلهم فظفر بهم وغنم، وأتى حوارين فقاتل أهلها فهزمهم وقتل وسبى، وأتى قصم فصالحه بنو مشجعة من قضاعة، وسار فوصل إلى ثنية العقاب عند دمشق ناشراً رايته، وهي راية سوداء، وكانت لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، تسمى العقاب، وقيل: كانت رايته تسمى العقاب فسميت الثنية بها، وقيل: سميت بعقاب من الطير سقطت عليها، والأول أصح.
ثم سار فأتى مرج راهط فأغار على غسان في يوم فصحهم فقتل وسبى، وأرسل سرية إلى كنيسة بالغوطة فقتلوا الرجال وسبوا النساء وساقوا العيال إلى خالد. ثم سار حتى وصل إلى بصرى فقاتل من بها فظفر بهم وصالحهم، فكانت بصرى أول مدينة فتحت بالشام على يد خالدوأهل العراق. وبعث بالأخماس إلى أبي بكر. ثم سار فطلع على المسلمين في ربيع الآخر، وطلع باهان على الروم ومعه الشمامسة والقسيسون والرهبان يحرضون الروم على القتال، وخرج باهان كالمعتذر، فولي خالد قتاله، وقاتل الأمراء من بإزائهم، ورجع باهان والروم إلى خندقهم وقد نال منهم المسلمون.
عميرة بفتح العين المهملة وكسر الميم.
ذكر وقعة اليرموك فلما تكامل جمع المسلمين باليرموك، وكانوا سبعة وعشرين ألفاً، قدم خالد في تسعة آلاف فصاروا ستة وثلاثين ألفاً سوى عكرمة فإنه كان ردءاً لهم، وقيل: بل كانوا سبعة وعشرين ألفاً وثلاثة آلاف من فلال خالد ابن سعيد، وعشرة آلاف مع خالد بن الوليد، فصاروا أربعين ألفاً سوى ستة آلاف مع عكرمة بن أبي جهل، وقيل في عددهم غير ذلك، والله أعلم. وكان فيهم ألف صحابي، منهم نحو مائة ممن شهد بدراً. وكان الروم في مائتي ألف وأربعين ألف مقاتل، منهم ثمانون ألف مقيد وأربعون ألف مسلسل للموت وأربعون ألفاً مربطون بالعمائم لئلا يفروا وثمانون ألف راجل، وقيل: كانوا مائة ألف، وكان قتال المسلمين لهم على تساند، كل أمير على أصحابه لا يجمعهم أحد، حتى قدم خالد بن الوليد من العراق، وكان القسيسون والرهبان يحرضون الروم شهراً، ثم خرجوا إلى القتال الذي لم يكن بعده قتال في جمادى الآخرة.
فلما أحس المسلمون بخروجهم أرادوا الخروج متساندين، فسار فيهم خالد بن الوليد فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن هذا يوم من أيام الله لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي، أخلصوا جهادكم وأريدوا الله بعملكم، فإن هذا يوم له ما بعده، ولا تقاتلوا قوماً على نظام وتعبية وأنتم متساندون فإن ذلك لا يحل ولا ينبغي، وإن من وراءكم لو يعلم علمكم حال بينكم وبين هذا، فاعملوا فيما لم تؤمروا به بالذي ترون أنه رأي من وإليكم ومحبته. قالوا: هات فما الرأي؟ قال: إن أبا بكر لم يبعثنا إلا وهو يرى أنا سنتياسر، ولو علم بالذي كان ويكون لقد جمعكم، إن الذي أنتم فيه أشد على المسلمين مما قد غشيهم وأنفع للمشركين من أمدادهم، ولقد علمت أن الدنيا فرقت بينكم، فالله الله! فقد أفرد كل رجل منكم ببلد لا ينتقصه منه إن دان لأحد من الأمراء ولا يزيده عليه إن دانوا له. إن تأمير بعضكم لا ينتقصكم عند الله ولا عند خليفة رسول الله، صلى الله عليه وسلم. هلموا فإن هؤلاء قد تهيأوا، وإن هذا يوم له ما بعده، إن رددناهم إلى خندقهم اليوم لم نزل نردهم وإن هزمونا لم نفلح بعدها. فهلموا فلنتعاور الإمارة فليكن بعضنا اليوم والآخر غداً والآخر بعد غد حتى تتأمروا كلكم، ودعوني أتأمر اليوم. فأمروه وهم يرون أنها كخرجاتهم وأن الأمر لا يطول.
فخرجت الروم في تعبية لم ير الراؤون مثلها قط، وخرج خالد في تعبية لم تعبها العرب قبل ذلك، فخرج في ستة وثلاثين كردوساً إلى الأربعين، وقال: إن عدوكم كثير وليس تعبية أكثر في رأي العين من الكراديس، فجعل القلب كراديس وأقام فيه أبا عبيدة، وجعل الميمنة كراديس وعليها عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة، وجعل الميسرة كراديس وعليها يزيد بن أبي سفيان، وكان على كردوسٍ القعقاع بن عمرو، وجعل على كل كردوس رجلاً من الشجعان، وكان القاضي أبو الدرداء، وكان القاص أبو سفيان بن حرب، وعلى الطلائع قباث بن أشيم، وعلى الأقباض عبد الله ابن مسعود.
قال رجل لخالد: ما أكثر الروم وأقل المسلمين! فقال خالد: ما أكثر المسلمين وأقل الروم، وإنما تكثر الجنود بالنصر وتقل بالخذلان، والله لوددت أن الأشقر، يعني فرسه، براء من توجيه وأنهم أضعفوا في العدد، وكان قد حفي في مسيره.
فأمر خالدٌ عكرمة بن أبي جهل والقعقاع بن عمرو فأنشبا القتال.
والتحم الناس وتطارد الفرسان وتقاتلوا، فإنهم على ذلك قدم البريد من المدينة واسمه محمية بن زنيم، فسألوه الخبر، فأخبرهم بسلامة وأمداد؛ وإنما جاء بموت أبي بكر وتأمير أبي عبيدة، فبلغوه خالداً، فأخبره خبر أبي بكر سراً.
وخرج جرجة إلى بين الصفين وطلب خالداً، فخرج إليه، فآمن كل واحد منهما صاحبه، فقال جرجة: يا خالد اصدقني ولا تكذبني، فإن الحر لا يكذب، ولا تخادعني، فإن الكريم لا يخادع المسترسل، هل أنزل الله نبيكم سيفاً من السماء فأعطاكه فلا تسله على قوم إلا هزمتهم؟ قال: لا. قال: ففيم سميت سيف الله؟ فقال له: إن الله بعث فينا نبيه، صلى الله عليه وسلم، فكنت فيمن كذبه وقاتله، ثم إن الله هداني فتابعته، فقال: «أنت سيف الله سله على المشركين»! ودعا لي بالنصر. قال: فأخبرني إلى ما تدعوني. قال خالد: إلى الإسلام أو الجزية أو الحرب. قال: فما منزلة من الذي يجيبكم ويدخل فيكم؟ قال: منزلتنا واحدة. قال: فهل له مثلكم من الأجر والذخر؟ قال: نعم وأفضل لأننا اتبعنا نبينا وهو حي يخبرنا بالغيب ونرى منه العجائب والآيات، وحق لمن رأى ما رأينا وسمع ما سمعنا أن يسلم، وأنتم لم تروا مثلنا ولم تسمعوا مثلنا، فمن دخل بنية وصدقٍ كان أفضل منا. فقلب جرجة ترسه ومال مع خالد وأسلم وعلمه الإسلام واغتسل وصلى ركعتين ثم خرج مع خالد فقاتل الروم.
وحملت الروم حملة أزالوا المسلمين عن مواقفهم إلا المحامية، عليهم عكرمة وعمه الحارث بن هشام، فقال عكرمة: قاتلت النبي، صلى الله عليه وسلم، في كل موطن ثم أفر اليوم! ثم نادى: من يبايع على الموت؟ فبايعه الحارث بن هشام وضرار بن الأزور في أربعمائة من وجوه المسلمين وفرسانهم، فقاتلوا قدام فسطاط خالد حتى أثبتوا جميعاً جراحاً، فمنهم من برأ ومنهم من قتل. وقاتل خالد وجرجة قتالاً شديداً، فقتل جرجة عند آخر النهار وصلى الناس الأولى والعصر إيماء وتضعضع الروم ونهد خالد بالقلب حتى كان بين خيلهم ورجلهم، فانهزم الفرسان وتركوا الرجالة.
ولما رأى المسلمون خيل الروم قد توجهت للمهرب أفرجوا لها، فتفرقت وقتل الرجالة واقتحموا في خندقهم، فاقتحمه عليهم، فعمدوا إلى الواقوصة حتى هوى فيها المقترنون وغيرهم، ثمانون ألفاً من المقترنين وأربعون ألف مطلق سوى من قتل في المعركة، وتجلل الفيقار وجماعة من أشراف الروم برانسهم وجلسوا فقتلوا متزملين. ودخل خالد الخندق ونزل في رواق تذارق. فلما أصبحوا أتى خالد بعكرمة بن أبي جهل جريحاً فوضع رأسه على فخذه، وبعمرو بن عكرمة فجعل رأسه على ساقه ومسح وجوههما وقطر في حلوقهما الماء وقال: زعم ابن حنتمة، يعني عمر، أنا لا نستشهد! وقاتل النساء ذلك اليوم وأبلين.
قال عبد الله بن الزبير: كنت مع أبي باليرموك وأنا صبي لا أقاتل، فلما اقتتل الناس نظرت إلى ناسٍ على تل لا يقاتلون، فركبت وذهبت إليهم وإذا أبو سفيان بن حرب ومشيخة من قريش من مهاجرة الفتح فرأوني حدثاً فلم يتقوني، قال: فجعلوا والله إذا مال المسلمون وركبتهم الروم يقولون: إيه بني الأصفر! فإذا مالت الروم وركبهم المسلمون: قال: ويح بني الأصفر! فلما هزم الله الروم أخبرت أبي فضحك فقال: قاتلهم الله! أبوا إلا ضغناً، لنحن خير لهم من الروم! وفي اليرموك أصيبت عين أبي سفيان بن حرب.
ولما انهزمت الروم كان هرقل بحمص، فنادى بالرحيل عنها قريباً وجعلها بينه وبين المسلمين وأمر عليها أميراً كما أمر على دمشق. وكان من أصيب من المسلمين ثلاثة آلاف، منهم عكرمة وابنه عمرو وسلمة بن هشام وعمرو ابن سعيد وأبان بن سعيد وجندب بن عمرو والطفيل بن عمرو وطليب بن عمير وهشام بن العاص وعياش بن أبي ربيعة، في قول بعضهم.
عياش بالياء المثناة والشين المعجمة.
وفيها قتل سعيد بن الحرب بن قيس بن عدي السهمي، وهو من مهاجرة الحبشة. وفيها قتل نعيم بن عبد الله النحام العدوي عدي قريش، وكان إسلامه قبل عمر. وفيها قتل النضير بن الحارث بن علقمة، وهو قديم الإسلام والهجرة، وهو أخو النضر الذي قتل ببدر كافراً. وقتل فيها أبو الروم بن عمير بن هاشم العبدري أخو مصعب بن عمير، وهو من مهاجرة الحبشة، شهد أحداً. وقيل قتلوا يوم أجنادين، والله أعلم.
ذكر حال المثنى بن حارثة بالعراق وأما المثنى بن حارثة الشيباني فإنه لما ودع خالد بن الوليد، وسار خالد إلى الشام فيمن معه بالجند، أقام بالحيرة ووضع المسلحة وأذكى العيون، واستقام أمر فارس بعد مسير خالد من الحيرة بقليل، وذلك سنة ثلاث عشرة، على شهربراز ابن أردشير بن شهريار سابور، فوجه إلى المثنى جنداً عظيماً عليهم هرمز جاذويه في عشرة آلاف، فخرج المثنى من الحيرة نحوه وعلى مجنبتيه المعنى ومسعود أخواه، فأقام ببابل وأقبل هرمز نحوه، وكتب كسرى شهربراز إلى المثنى كتاباً: إني قد بعثت إليكم جنداً من وحش أهل فارس، إنما هم رعاء الدجاج والخنازير ولست أقاتلك إلا بهم. فكتب إليه المثنى: إنما أنت أحد رجلين: إما باغٍ فذلك شر لك وخير لنا، وإما كاذبٌ فأعظم الكاذبين فضيحة عند الله وفي الناس الملوك، وأما الذي يدلنا عليه الرأي فإنكم إنما أضررتم إليهم، فالحمد لله الذي رد كيدهم إلى رعاة الدجاج والخنازير.
فجزع الفرس من كتابه فالتقى المثنى وهرمز ببابل فاقتتلوا قتالاً شديداً، وكان فيلهم يفرق المسلمين، فانتدب له المثنى ومعه ناس فقتلوه وانهزم الفرس وتبعهم المسلمون إلى المدائن يقتلونهم. ومات شهربراز لما انهزم هرمز جاذويه واختلف أهل فارس وبقي ما دون دجلة بيد المثنى.
ثم اجتمعت الفرس على دخت زنان ابنة كسرى، فلم ينفذ لها أمرٌ وخلعت وملك سابور بن شهربراز. فلما ملك قام بأمره الفرخزاد بن البنذوان، فسأله أن يزوجه آزرميدخت بنت كسرى، فأجابه. فغضب آزرميدخت فأرسلت إلى سياوخش الرازي فشكت إليه، فقال لها: لا تعاوديه وأرسلي إليه فليأتك، فأرسلت إليه واستعد سياوخش، فلما كان ليلة العرس أقبل الفرخزاد حتى دخل، فثار به سياوخش فقتله، وقصدت آزرميدخت ومعها سياوخش سابور فحصروه ثم قتلوه، وملكت آزرميدخت ثم تشاغلوا بذلك.
وأبطأ خبر أبي بكر على المثنى فاستخلف على المسلمين بشير بن الخصاصية ووضع مكانه في المسالح سعيد بن مرة العجلي وسار إلى المدينة إلى أبي بكر ليخبره خبر المشركين ويستأذنه في الاستعانة بمن حسنت توبته من المرتدين، فإنهم أنشط إلى القتال من غيرهم، فقدم المدينة وابو بكر مريض قد أشفى، فأخبره الخبر، فاستدعى عمر وقال له: إني لأرجو أن أموت يومي هذا، فإذا مت فلا تمسين حتى تندب الناس مع المثنى، ولا تشغلنكم مصيبة عن أمر دينكم ووصية ربكم، فقد رأيتني متوفى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وما صنعت وما أصيب الخلق بمثله، وإذا فتح الله على أهل الشام فاردد أهل العراق إلى أهل العراق فإنهم أهله وولاة أمره وأهل الجرأة عليهم.
ومات أبو بكر ليلاً فدفنه عمر وندب الناس مع المثنى، وقال عمر: قد علم أبو بكر أنه يسوءني أن أؤمر خالداً فلهذا أمرني أن أرد أصحاب خالد، وترك ذكره معهم.
وإلى آزرميدخت انتهى شأن أبي بكر، فهذا حديث العراق إلى آخر أيام أبي بكر، رضي الله عنه.

.ذكر وقعة أجنادين:

وقد ذكرها أبو جعفر عقيب وقعة اليرموك وروى خبرها عن ابن إسحاق من اجتماع الأمراء ومسير خالد بن الوليد من العراق إلى الشام نحو ما تقدم، وقال: فسار خالد من مرج راهط إلى بصرى وعليها أبو عبيدة بن الجراح وشرحبيل بن حسنة ويزيد بن أبي سفيان، فاجتمعوا عليها فرابطوها فصالحهم أهلها على الجزية، فكانت أول مدينة فتحت بالشام في خلافة أبي بكر. ثم ساروا جميعاً إلى فلسطين مدداً لعمرو بن العاص وهو مقيم بالعرباتمن غور فلسطين، واجتمعت الروم بأجنادين وعليهم تذارق أخو هرقل لأبويه، وقيل كان الروم القبقلار؛ وأجنادين بين الرملة وبين جبرين من أرض فلسطين، وسار عمرو بن العاص حين سمع بالمسلمين فلقيهم ونزلوا بأجنادين وعسكروا عليهم، فبعث القبقلار عربياً إلى المسلمين يأتيه بخبرهم، فدخل فيهم وأقام يوماً وليلة ثم عاد إليه، فقال: ما وراءك؟ فقال: بالليل رهبان وبالنهار فرسان، ولو سرق ابن ملكهم قطعوه، ولو زنى رجم لإقامة الحق فيهم. فقال: إن كنت صدقتني لبطن الأرض خيرٌ من لقاء هؤلاء على ظهرها.
والتقوا يوم السبت لليلتين بقيتا من جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة، فظهر المسلمون وهزم المشركون وقتل القبقلار وتذارق واستشهد رجال من المسلمين، منهم: سلمة بن هشام بن المغيرة، وهبار بن الأسود، ونعيم بن عبد الله النحام، وهشام بن العاص بن وائل، وقيل: بل قتل باليرموك وجماعة غيرهم.
قال: ثم جمع هرقل للمسلمين فالتقوا باليرموك، وجاءهم خبر وفاة أبي بكر وهم مصافون، وولاية أبي عبيدة، وكانت هذه الوقعة في رجب؛ هذه سياقة الخبر.
وكان فيمن قتل ضرار بن الخطاب الفهري وله صحبة، وعمرو ابن سعيد بن العاص وهو من مهاجرة الحبشة، وقتل باليرموك، وممن قتل الفضل بن العباس، وقيل: قتل بمرج الصفر، وقيل: مات في طاعون عمواس. وفيها قتل طليب بن عمير بن وهب القرشي وقتل باليرموك، شهد بدراً، وهو من المهاجرين الأولين. وفيها قتل عبد الله بن أبي جهم القرشي العدوي، وكان إسلامه يوم الفتح. وفيها قتل عبد الله بن الزبير بن عبد المطلب بعد أن قتل جمعاً من الروم في المعركة، وكان عمره يوم مات النبي، صلى الله عليه وسلم، نحو ثلاثين سنة. وفيها قتل عبد الله بن الطفيل الدوسي، وهو الملقب بذي النور، وكان من فضلاء الصحابة قديم الإسلام هاجر إلى الحبشة.
أجنادين بعد الجيم نون، ودال مهملة مفتوحة، ومنهم من يكسرها، ثم ياء مثناة من تحتها ساكنة، وآخره نون.
وقد قيل: إن وقعة أجنادين كانت سنة خمس عشرة، وسيرد ذكرها إن شاء الله.